الحمد
لله الملك العظيم، العزيز الحكيم، له ما في السماوات وما في الأرض، وله
الحمد في الأولى والآخرة، وله الحكم وإليه ترجعون، لا يخفى عليه شيء في
الأرض ولا في السماء، يعلم ما تخفون وما تعلنون، أحمده وأشكره، وأشهد أن لا
إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، الذي بيَّن
لأمته ما فيه الخير والسعادة، وحذرها من سوء العاقبة والمصير، اللهم صلِّ
وسلم على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وأصحابه، وأتباعهم بإحسان إلى يوم
الدين وسلم تسليماً، أما بعد:
فإن المسلم الصادق المستقيم في
حياته يسير على منهاج الله - تبارك وتعالى - لا يزيغ ولا يحيد، فهو لا يعرف
الكذب ولا الخداع ولا النفاق، ولا أي شيء يبعده عن رحمة مولاه ومغفرته -
تبارك وتعالى -، وقد جاء الإسلام ليقيم الحياة كلها على الصدق فينسجم مع
سنن الله - تبارك وتعالى - التي لا تتبدل ولا تتغير: {سُنَّةَ اللَّهِ فِي
الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلُ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ
تَبْدِيلاً}1، وحذرت الشريعة الغراء من أفعال لو انتشرت وعمت في مجتمع
لأفسدت الحياة فيه، ولانهارت بسببه العلاقات بين الناس، مما يترتب عليه
الشر والفساد العريض، ومن هنا جاء تحذير الإسلام من شهادة الزور التي تجلب
على صاحبها الإثم والبوار في الدنيا والآخرة، فإن شاهد الزور مرتكب لذنب من
كبائر الذنوب كما ورد في حديث أنس - رضي الله عنه - قال: سئل النبي - صلى
الله عليه وسلم - عن الكبائر قال: ((الإشراك بالله، وعقوق الوالدين، وقتل
النفس، وشهادة الزور))2، وعن عبد الرحمن بن أبي بكرة عن أبيه - رضي الله
عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "((ألا أنبئكم بأكبر
الكبائر؟)) قلنا: بلى يا رسول الله!! قال: ((الإشراك بالله، وعقوق
الوالدين، وكان متكئاً فجلس فقال: ((ألا وقول الزور، وشهادة الزور، ألا
وقول الزور، وشهادة الزور)) فما زال يقولها حتى قلت: لا يسكت"3.
وشهادة الزور مشكلة في الدين
والدنيا، ومشكلة للفرد والمجتمع، فهي معصية لله - تبارك وتعالى -، ولرسوله -
صلى الله عله وعلى آله وسلم -، وهي كذب وبهتان وقد قال الله - تبارك
وتعالى -: {إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ}4، وعن
عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال:
((إن الصدق يهدي إلى البر، وإن البر يهدي إلى الجنة، وإن الرجل ليصدق حتى
يكون صديقاً، وإن الكذب يهدي إلى الفجور، وإن الفجور يهدي إلى النار، وإن
الرجل ليكذب حتى يكتب عند الله كذاباً))5؛ وهي أيضاً أكل للمال بالباطل لأن
"المشهود له" يأكل ما لا يستحق، و"الشاهد" يقدم له ما لا يستحق، وقد جاء
الرواية بالوعيد الشديد في من أخذ مال غيره بشهادة الزور وأوجبت له النار
ففي حديث أم سلمة - رضي الله عنها -: عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال:
((إنما أنا بشر، وإنكم تختصمون إليَّ، ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من
بعض، وأقضي له على نحو مما أسمع، فمن قضيت له من حق أخيه شيئاً فلا يأخذ
فإنما أقطع له قطعة من النار))6.
وشهادة الزور هي سبب لانتهاك
الأعراض، وإزهاق النفوس؛ وشاهد الزور إذا شهد مرة هانت عليه الشهادة ثانية
لأن النفوس بمقتضى الفطرة تنفر عن المعصية وتهابها، فإذا وقعت فيها هانت
عليها، وتدرجت من الأصغر إلى ما فوقه وقد قال الله - تبارك وتعالى -:
{فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ
النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ
الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ}7، وأمرنا ربنا -
تبارك وتعالى - أن نكون مع الصادقين فقال في محكم التنزيل: {يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَكُونُواْ مَعَ الصَّادِقِينَ}8،
فعلى الإنسان أن يكون بعيداً عن الصفات التي لا تليق به كمسلم، وأن يكون
قدوة للآخرين، وليكن فعله ذلك امتثالاً لأمر الله - تبارك وتعالى - كما
تقدم في الآيات والأحاديث، نسأل الله - تبارك وتعالى - العفو والعافية،
والمعافاة الدائمة في الدين والدنيا والآخرة، ونسأله - جل وعلا - أن يجنبنا
الزلل في القول والعمل، إنه على كل شيء قدير، وصلى الله وسلم على نبينا
محمد وآله وصحبه.